إلى صغيري (39)- العمر

يتذكر جيداً حكاياه المنصوفة، الضحكات الجميل ظاهرُها والمغصوص باطنها. يتذكر ملامح الصدق في وجهها وتلعثم كلامها ونبرة صوتها، وعمقه في قلبها من عينيها. لا شك يتذكر الصمت التي كانت تتحمله والغياب وأعذاره الطفولية الكاذبة.

كيف كان يتحاشاها لأنه غارقاً فيها وممتلئاً بها ويخشى الضعف والإعتراف ولأنه كان جبان بما يكفي إستطاع أن ينكر كل الحب ويغادر ويعود، ثم يُغادر ليعود ثانية وثالثاً وألف مرة وكذبة ودمعة. ما كان عليه محاولة الإقدام على فعل شيء يعرف مُسبقاً أنه لن يكون رجلاً بما يكفي ليحصل على ما يُريد ويتحمل كل تبعاته حلوها ومرها.

لم يمرّ عاماً بعد، لكن قد تفتت كل جبال الصبر وأمطرت العيون بعد عاصفة اقتلعت معها كل ورود الذكرى وما تركت إلا الدمار والشوك. شتان بين الذكريات التي تبقى جميلة مهما مرّت السنون وبين الذكريات التي ظنّتها كذلك ولم تكن.

بُني الغيبيّ الجميل

مرّ من الوقت الكثير ولم أكتب إليك، مررتُ بتقلبات نفسية لم أجد لها حلاً سوى التأقلم ومحاولة سبر أغوار نفسي والتغلّب على إنعكاسات الحرب وآثارها على نفسي وقلبي وعائلتي. لك أن تتخيل أن عامي الواحد يمرّ عليّ لأجدُ نفسي وكأني قد بلغتُ من العمر عتيّا.
الحرب ليست هينة ولا بسيطة كما لا يمكن التأقلم عليها مهما كنت بارد الأعصاب وبلا قلب، تسلبُ منّي الكثير مما أدركهُ وما لا أدركه، بعض ما تسلبهُ لا ألحظهُ إلا بعد فوات الآوان.
وأكثر ما سلبتهُ الحرب مني بجانب الأمان والسلام، ضحكتي، نعم، ذاك الضحك المجنون الذي كان يعانق السحاب ويزاحم قمم الجبال افتقدتهُ جداً، افتقدتُ الضحك الذي يملئ قلبي.

بُني

لله الحمد والمنة أنك ليس هنا بعد، فالحياة  في هذه البقعة من الأرض بائسة تسلبنا الكثير بل أكثر مما نتحمل.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة